الوصيــــــــــــــــــــــــــة
عذرا سيدتي لعلني أتيت في وقت غير مناسب , قد اخترقت هدوء خلوتك دون إشعار أو سبب.
أدارت كرسيها المتحرك ومالت برأسها , تسرب خمارها , سدل شعرها على وجهها ومنكبيها وجزء من صدرها, ثم اعتدلت في جلستها محاولة إعادة تغطية رأسها حيث الخمار منها أنساب انسياب مياه الجداول في رحم الحديقة الغناء ذات الورد والورود والطيب والريحان وطين من زعفران , نظرت إلي وكأنها تطلب مني مساعدتها في التقاط الخمار , فهمت , سارعت لالتقاطه , ساعدتها في لفه , مسكت بيد وكأن فتوة حلت بها , شملتني بنظرة عميقة لم أتعود عليها من ذي قبل , الدموع جادت بها مقلتاها سيلا منهمرا , هالة زرقاء لونها داكن أحاطت بعينيها , أهدابها تلمع مما علق بها من قطرات الدموع , ثم تكلمت فقالت:
تفضل – مشيرة بيدها إلي أن أجلس- أنا مقتصرة تماما في حقك.
تعجبت من قولها هذا , وما الداعي لذلك ؟ بهت .. كدت أنكر عليها ما تقول ...
دنوت منها قليلا وبيدي منديل من ورق معقم .مسحت ما كسا محياها من دموع
لم تمانع ..لم تجزع... لم تدافع... تركتني أفعل ذلك وكأنها ارتاحت من ذلك..
سيدتي.. ألك حاجة أقضيها لك؟ أعدت الطلب مرة ثانية.. ثالثة.. لا رد , ظننتها دخلت في سبات أو أنها قد غفت نتيجة التعب والإرهاق خلال أيام وليال وهي تعد حسابات وتحدد أسهما لمن تعودت معاملتهم , حركت الكرسي بهدوء ولطف , أدرته يمنة و يسرة ...لا شيئ ينبئ على أنها شاعرة بما يدور حولها .
في غرفة العناية المركزة كانت سيدتي ممدة على السرير جسدا جامد الا من شهيق وزفير أنعم من الحرير وأهدأ من هيبة قدوم أمير , مغطى جسمها بقطعة قماش أبيض , وجهها منه ذاك النور الذي بهرني وأرجاء الغرفة عم ...اقتربت منها جيدا ولولا الحاجز الزجاجي لقبلتها جبينا ساعات مرت ... أصوات خنست , حركات هدأت الا من تلك للمرضين والممرضات والأطباء والطبيبات فهم في حركة دؤوبة بين غدو ورواح , إشرافا.. مراقبة.. تلبية ... أما هي فقد خلتها
-وقد خاب ظني – أنها في غيبوبة كما تعودنا , والحقيقة أنها في عالم غير عالمنا , وفي رحاب فسيحة غير تلكم التي ضاقت بنا ...إنها في ضيافة الرحمن..قال الطبيب ذلك ..
شعرت بمكروه سيطرق ..... أحسست بدوار شديد وبالكاد أمسكت بظهر الكرسي ,..جلست ...جادت عيناي بسيلها ..
قضت نحبها سيدتي ... رحلت هي أميرتي وولية نعمتي ..
ولست وثلاثين يوما خلت من عمر غيابها الأبدي , فتحت أدراج مكتبها- حيث ملكتني مفاتيحه في حياتها – حفاظا على صيرورة شركتها , وبناء على ما عودتني عليه أثناء إدارتها ..
هذه مراسلات... هذه ملفات.. هذه تعليمات .. هذه قصاصات.. أما هذه؟... يا الله مطوية مشمعة الطرفين تحمل على ظهرها عبارة[ هي لك يا عمر ولا تفتحها الا بعد رحيلي]
لاتسأل عن حالي. وما آل إليه ؟لا تسأل عما أصابني وما أنتابني؟فدقات قلبي لا يعدها مقياس
ثقل الجبال كسا كل جوارحي ..جلست والمطوية بيدي , ولا أتذكر كم من الوقت قد مضى وأنا على هذا الحال , أدرتها..قلبتها.. أعدت قراءة ما كتب ..أخيرا استعرت شجاعة , أزلت ما علق على طرفيها من شمع بكل حذر وهدوء لئلا أتلف شيئا ما بداخلها يكون قد كتب..فتحتها.
وإذ بتلكم المطوية حبلى بما لو أنزل على السموات والأرض والجبال لتبرأن منه
[ أكتم سري؟ ... ارحم قبري؟... اسند ظهري؟... صن قصري؟...]
أربع كلمات , خفيفة النطق ثقيلة الأداء , وأنا صاحبها ومستقرئ معانيها وأبعادها
الآن وقد مرت ستة شهور .. الشركة بخير .. وارداتها وصادراتها أنهار وبحور ,سمعتها بدر البدور.. جودة إنتاجها في أعلى مقام بفضل الله الشكور ..
أما مطويتها فهذا ما لا أستطيع البوح به كلية حيث الوصية أمانة وستر مستور , إلى حين يمسي رميما من بداخل القبور,.....
أما عن مناداتها بسيدتي فهذا حقا اسمها وليس مقاما اجتماعيا سياديا , ....
أما أنا فالله وحده يعلم أني لم أخنها في قرآن ولا سنة .. لا ظاهرا ولا باطنا , وكنت لها وفيا كما كانت لي كذلك , في حدود ما حده الشرع وتآلف عليه عقلاء المجتمع.
ابراهيم تايحي